مقالات

هل تعود مصر الى إرثها القيادي والريادي عبر البوابتين الإيرانية والصينية؟ وما هو الدور الخليجي في دفعها في هذا الاتجاه؟

بقلم عبد الباري عطوان

عندما سألت أحد الدبلوماسيين المصريين القدامى عن أسباب حالة الانكفاء السياسي المصرية في الوقت الراهن، أجابني بأن مصر التي تواجه “التهميش” عربيا، ودوليا في الوقت الراهن تمر بحالة من “المراجعات” الجذرية، بقيادة المؤسسة العسكرية الحاكمة، في المجالات كافة في محاولة جدية لإستعادة دورها ومكانتها، وقال لي أنصحك بمتابعة التطورات على صعيد ملفين أساسيين: الأول ملف العلاقات المصرية الإيرانية، والثاني الانفتاح السياسي والعسكري والاقتصادي المصري المتسارع على الصين.

زيارة الرئيس المصري دونالد ترامب لثلاث دول خليجية بدءا بالرياض، وبعدها كل من قطر والامارات، دون أي تشاور او تنسيق مع مصر، وحرص المملكة العربية السعودية على دعوة احمد الشرع الرئيس السوري “المؤقت” الى العاصمة السعودية للقاء ترامب، جنبا الى جنب مع معظم قادة الدول الخليجية، كانت هذه الزيارة بمثابة “الصدمة” للقيادة المصرية، وجرس الإنقاذ لها للنهوض من حالة الاقصاء والتهميش التي تعرضت لها بسبب سياساتها، وأول خطوة في هذا الاتجاه الخروج من المعسكر الأمريكي الذي تمترست فيه منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد قبل ما يقرب 45 عاما، والانفتاح على ايران الدولة الإقليمية العظمى الصاعدة، وتوثيق العلاقات مع الدولة العظمى الصين، سياسيا وعسكريا واقتصاديا.

لا نكشف سرا عندما نقول ان العلاقات المصرية مع معظم دول الخليج ليست جيدة على الاطلاق، خاصة مع المملكة العربية السعودية لوصول “دولتها العميقة” الى قناعة راسخة بأنها لم تعد قريبة الى قلب القيادات الخليجية، التي بات معظمها يفضل التقارب مع دولة الاحتلال الإسرائيلي كبديل إقليمي لمصر، وإقامة علاقات استراتيجية معها استجابة لضغوط وتهديدات أمريكية، خاصة في عهد ترامب

لعل تقديم ثلاث دول خليجية (السعودية وقطر والامارات) 5 تريليونات دولار في ثلاثة أيام على شكل هدايا واستثمارات للرئيس ترامب، لإخراجه من أزمة الدين العام الذي وصل الى أكثر من 43 تريليون، والعجز التجاري السنوي الذي بلغ تريليون و300 مليار دولار العام الماضي، هذا الكرم الثلاثي الخليجي للرئيس الأمريكي البلطجي، كان بمثابة النقطة الأخيرة لطفح الكيل المصري، بينما تتسابق هذه الدول الثلاث لتقديم تريليونات لترامب، لم تقدم لمصر الا بضعة مليارات لتسديد أقساط وفوائد ديونها، ووفق نظرية “المال مقابل الأرض”، أي المال الخليجي مقابل امتلاك قرى سياحية كاملة، وكان في مقدور هذه الدول تسديد كل ديون مصر التي لا تزيد عن 155 مليارا، فقد دفعت دولة واحدة ضعف هذا المبلغ لإسقاط النظام السوري.

القيادة المصرية الحالية، تختلف عن كل القيادات السابقة في العمل بشكل دؤوب على إخفاء خلافاتها العربية، وعدم اللجوء الى الهجمات الإعلامية كسلاح رد مثلما كان عليه الحال في الماضي، أولا لإبقاء شعرة معاوية ريثما تنتهي المراجعات الحالية الصامتة، وتكتمل عملية ترتيب البيت المصري وفق القرارات والمواقف التي ستترتب عليها، وثانيا، لان معظم الاعلام المصري فقد أسنانه ومخالبه، وبالتالي نفوذه وتأثيره، في مواجهة اعلام خليجي أكثر قوة وهيمنة وحداته ومهنية، ولا نعرف ما اذا كانت المراجعات المذكورة آنفا تشمل هذه المسألة ام لا.

عندما تطالب حملات إعلامية خليجية، وسعودية على وجه الخصوص، بنقل مقر الجامعة العربية من القاهرة، وتدوير منصب امينها العام، وانهاء احتكار الدولة المصرية له لأكثر من ثمانين عاما، ولا يكون هناك الا ردا متواضعا وخجولا على هذا الانتهاك لمسألة سيادية مصرية، فإن هذا يعكس حجم ضخامة عملية التهميش لمصر ودورها وحجمها وإرثها التاريخي.

تدهور العلاقات المصرية مع معظم الدول الخليجية التي كانت تتغنى القيادة المصرية بأن أمنها جزء أساسي من الامن القومي المصري، يتزامن مع تدهور آخر مع الولايات المتحدة الامريكية على أرضية الرفض المصري لمشروع التهجير لأبناء قطاع غزة والضفة الغربية، ورفض الرئيس عبد الفتاح السيسي لقبول دعوة الرئيس ترامب لزيارة واشنطن والرضوخ للضغوط والاملاءات الامريكية الوقحة والمهينة في هذه الصدد، وعدم الانخراط في حرب أمريكا ضد حركة “انصار الله” في اليمن، وكانت مصر مصيبة في الحالين

حالة التغيير المصرية المتسارعة والتي تطبخ على نار المؤسسة العسكرية الهادئة يسير الآن في اتجاهين الأول:

التوجه المصري المتسارع الآن يسير في اتجاهين الأول: ايران إقليميا، والثاني: الصين دوليا، وهناك مؤشرات تؤكد ان هذا التوجه استراتيجيا، وليس تكتيكيا، ويشكل تحديا مزدوجا للولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وربما لممارسة ضغوط جدية في الوقت نفسه على بعض الدول الخليجية التي ادارت ظهرها للشقيق المصري ووضعت كل البيض في سلة أمريكا وإسرائيل المشتركة.

التقارب مع ايران التي حقق انتصارا كبيرا على العدوان الإسرائيلي الأمريكي المشترك على قواعدها النووية مطلع الشهر الماضي يحقق إفادة كبرى سياسية وعسكرية، وخاصة الحصول على التكنولوجيا العسكرية المتقدمة في مجال منظومة الصواريخ والمسيرات جدا التي دمرت ناطحات سحاب كبيرة من مدن فلسطينية محتلة “إسرائيلية” مثل تل ابيب وحيفا وبئر السبع، وفشلت كل المنظومات الدفاعية الإسرائيلية في اعتراض معظمها، والامر الآخر الاستفادة من الخبرة النووية، وايران لا تشكل خطرا على مصر، مضافا الى ذلك ان مصر ليست مسكونة بالفيروسات الطائفية او العرقية في الوقت الراهن، وعلى طول تاريخها الحضاري الذي يمتد لأكثر من 8 آلاف سنة، فقد فتحت ذراعيها لكل الأعراق والطوائف.

اما الانفتاح على الصين الدولة العظمى الصاعدة اقتصاديا وتكنولوجيا وسياسيا، فهو انفتاح مستقل وبلا قيود، ولا يخضع مطلقا للنفوذ الأجنبي، والصهيوني خاصة، وأحسنت القيادة المصرية صنعا بشراء الصواريخ الطائرات الصينية الحديثة التي كانت وراء انتصار الباكستان على الهند في المواجهة العسكرية الأخيرة، ولعل الاتفاقات الاقتصادية التي وقعتها القاهرة مع بكين في الأيام القليلة الماضية، وتتلخص في توقيع اتفاقيات مهمة لاستعمال العملات المحلية في التبادل التجاري في ضربة قوية للدولار والنظام المالي الغربي

مصر تقف على أبواب مواجهة مصيرية مع كل من الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، فلم يبق للعرب الا جيشها بعد تدمير الجيوش العراقية والسورية ونتمنى عليها الاستعداد لها وبشكل جدي، فالخطة الإسرائيلية الزاحفة بتهجير اكثر من مليوني فلسطيني من أبناء القطاع الى رفح في معسكر اعتقال نازي صهيوني على الحدود المصرية، هو مقدمة لترحيل هؤلاء بالقوة الى سيناء بدعم امريكي، مضافا الى تحديات أخرى مثل تحويل سورية حليفة مصر التاريخية الى دولة حامية ومساندة للمشروع الصهيوني، وربما يسير لبنان على الطريق نفسه، هذا اذا بقي، ولم يتم تفكيكه وضم معظمه الى سورية “السنية” الجديدة، وتهجير أهله الشيعة الى العراق، والمسيحيين الى أوروبا.

مصر يجب ان تفوق من غيبوبتها، وتستعيد دورها التاريخي والقيادي والريادي، وتصحيح كل الأخطاء، والخطايا التي جرى ارتكابها اثناء وبعد اتفاقات كامب ديفيد، لان الاستمرار في سياسة الانكماش والنأي بالنفس عن القضايا العربية والإسلامية، سينعكس اضعافا وتقسيما وإذلالا لها، ولعل السيناريو المطبق حاليا في كل من السودان وليبيا جارتيها في انتظارها برعاية أمريكية صهيونية، فثمن الاستسلام اغلى بكثير م ثمن المقاومة والدفاع عن الكرامة الوطنية.

كما أتمنى أيضا ان ترفض مصر المساعدات الامريكية المسمومة التي تبلغ ملياري دولار سنويا معظمها عسكرية، لأنها وبعد خمسين عاما فقدت قيمتها بفعل التضخم وباتت ورقة ضغط أمريكي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *