شهد الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين سلسلة صراعات متشابكة جعلته ساحة دائمة للاضطرابات الدولية. فمنذ وعد بلفور عام 1917، مروراً بنكبة فلسطين عام 1948، فالنكسة عام 1967، وحرب تشرين 1973، اجتياح لبنان 1982، وانسحاب “إسرائيل” من لبنان عام 2000، بقيت المنطقة رهينة معادلات غير مستقرة، يتجدد معها سؤال المصير: إلى أين؟
قبل “طوفان الأقصى”
عشية السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان الشرق الأوسط يعيش حالة “سلام هش”. فقد بدت “اتفاقيات أبراهام” (2020) كأنها تفتح الباب لتطبيع عربي واسع مع “إسرائيل”، فيما انشغلت دول الخليج بتنويع اقتصاداتها بعيداً عن النفط. تركيا كانت تسعى إلى لعب دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا، ومصر منهمكة بأزماتها الاقتصادية، بينما إيران تواجه عزلة متصاعدة وعقوبات خانقة. هذا التوازن الهشّ شابه ما قبل حرب 1967، حين خُيّل أن المنطقة تتجه إلى تهدئة، قبل أن ينفجر الصراع بشكل دراماتيكي.
بعد الحرب على غزة ولبنان واليمن
مع اندلاع حرب “إسرائيل” على غزة، وما تبعها من توسع العمليات العسكرية لتشمل لبنان واليمن، بدا أن المنطقة دخلت في “حرب إقليمية مفتوحة”، تشبه في بعض أبعادها حرب 1973 التي شملت أكثر من جبهة.
الغارات الإسرائيلية على سوريا والعدوان على إيران تعيد إلى الأذهان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 حين تجاوز العدو الإسرائيلي حدود النزاع الفلسطيني إلى محاولة إعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي.
الموقف المصري اليوم يتأرجح بين الرغبة في تجنّب الانخراط المباشر، وبين الضغوط الداخلية التي تذكّر بموقف القاهرة قبيل “كامب ديفيد” 1978: الرغبة في الاستقرار مقابل الانخراط في ملف فلسطيني لا يمكن الانفكاك عنه.
الموقف التركي يذكّر بما فعلته أنقرة خلال حرب الخليج 1990-1991، حين استغلت الأزمة لتعزيز نفوذها في الإقليم. اليوم، تمزج تركيا بين التصعيد الخطابي ضد “إسرائيل” ومحاولة الاستفادة من موقعها الجيوسياسي بين روسيا والغرب.
الخليج بعد الاعتداء على قطر
الاعتداء الإسرائيلي على قطر شكّل تحوّلاً نوعياً، إذ نقل المواجهة إلى قلب الخليج. وهو حدث يمكن مقارنته بغزو العراق للكويت عام 1990، حين اكتشفت دول الخليج أن أمنها الداخلي جزء من معادلة إقليمية ودولية أكبر. اليوم، تقف دول الخليج أمام خيارات محدودة:
1. الحاجة إلى الحماية الأميركية والغربية كما جرى بعد 1991.
2. البحث عن معادلات أمن جماعي إقليمي تضم إيران وتركيا ومصر وباكستان.
3. الانخراط في مشروع تسوية سياسية شاملة تُعيد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية كشرط للاستقرار، ومنه الدخول إلى حل الدولتين.
إلى أين؟
إذا استمر المشهد على ما هو عليه، فإن المنطقة مرشحة لمزيد من التفكك، بما يشبه ما جرى بعد غزو العراق عام 2003، حين ولّد الفراغ الاستراتيجي حروباً أهلية وصعوداً للحركات المتطرفة.
استمرار القصف الإسرائيلي على أكثر من جبهة سيؤدي إلى استنزاف شامل، حيث تُضعف كل دولة على حدة وتفقد القدرة على صياغة رؤية جماعية، ولكن في الوقت نفسه، ستشتت قوتها التي لا قدرة لها على العمل المستمر ضمن كل الجبهات التي تفتحها في المنطقة.
لكن التاريخ يُظهر أن الأزمات الكبرى كثيراً ما تُنتج تحولات سياسية غير متوقعة. بعد هزيمة 1967، وُلدت المقاومة الفلسطينية المعاصرة.
وبعد حرب 1973، وُلدت مسارات التسوية. وبعد اجتياح 1982، تعززت قوة المقاومة اللبنانية التي كان قد أسسها الإمام موسى الصدر عام 1974، وقلبت الموازين لاحقاً.
اليوم، أمام الدول والشعوب ثلاثة خيارات أساسية:
1. الانكفاء والانتظار، وهو خيار أثبت التاريخ أنه يترك المبادرة للقوى الخارجية.
2. الاحتماء بالتسويات الفردية، كما فعلت بعض الدول بعد “كامب ديفيد” و”أوسلو”، وهو خيار ينتج هشاشة دائمة.
3. بناء جبهة إقليمية موحدة تربط بين الأمن القومي العربي والإسلامي والقضية الفلسطينية، وهو الخيار الأصعب لكنه الأجدى لاستقرار طويل الأمد.
مما لا شك فيه أن الشرق الأوسط اليوم يقف على مفترق طرق شبيه بما جرى في لحظات تاريخية مفصلية: 1948، 1967، 1973، 1974، 1982، 1990، 2000، و2003. والسؤال “إلى أين؟” لن يُجاب عنه بالخطابات ولا بالتسويات الجزئية، بل بقدرة الشعوب والدول على قراءة التاريخ واستلهام دروسه. فالتاريخ يثبت أن من لا يملك مشروعه الخاص يصبح جزءاً من مشاريع الآخرين.